BLOGGER TEMPLATES - TWITTER BACKGROUNDS »

الاثنين، أكتوبر 19، 2009

إحم . . . إحم


إحم . . . إحم

إصطباحة بلال فضل 19-10-2009

http://www.almasry-alyoum.com/article2.aspx?ArticleID=229901&IssueID=1563


إذا كنت مرهف الإحساس أرجوك لا تقرأ هذا المقال. وإذا كنت «لسه واكل» فأجِّل قراءته قليلاً.

سين سؤال: هل يمكن أن تعتبر روائح البيبى التى تعبّق بها أسافل كبارى القاهرة وأكوام الفضلات التى تَعُجّ بها بطون أنفاقها ممارسة من نوع خاص للاحتجاج السياسى ضد نظام الحكم؟. صدقنى، ليس فى هذا السؤال رغبة تعسفية منى فى إثارة قرفك بقدر ما هو محاولة لفهم ما آلت إليه أحوال شوارع شعب متحضر كان دائما يعطى للنظافة قيمة خاصة، تجعل أفضل وصف يطلقه على شخص بأن دماغه «نديفة»، وأفضل وصف يطلقه على الدنيا عندما يرضى عنها بأنها «زى الفل».

لست أنا الذى أقول بالتبول الاحتجاجى، الروائى التركى الكبير مظفر إزغو يقول به فى قصة رائعة تحمل عنوان «نفق للمشاة»، ترجمها الكاتب السورى عبدالقادر عبداللى، وأنا أهديها إليك وإلى ذلك المواطن الذى رأيته قبل أيام يتبول فى قلب شارع قصر العينى فى «وضح الليل»..

تحكى القصة عن قرية تركية هبط عليها وفد رسمى ذات يوم ليبشر أهاليها بأن دولة صديقة قررت أن تهدى القرية نفقاً للمشاة، هو آخر ما تحتاج إليه القرية التى لم يكن بها سوى شارع رئيسى واحد، لم يفهم أهل القرية لغة رئيس الوفد الصديق ولذلك صفقوا من قلوبهم، بعد أسابيع جاءت آلات ضخمة وبدأت بالحفر فى وسط الطريق ليُمنّى الأهالى أنفسهم بافتتاح مصنع أو مستشفى جاهز من مجاميعه، والبعض شطح به الخيال ليتخيل افتتاح بئر بترول، وبعد أشهر فوجئوا أن كل هذا الفيلم كان من أجل افتتاح نفق مشاة، بعضهم سأل: ماذا يعنى نفق مشاة؟ فأجيب: إنه نفق تدخل من طرفه وتخرج من الطرف الآخر.

عبر أهل القرية النفق بعد افتتاحه فلم يجدوا به جديدا ولذا لم يعبروه ثانية، ورغم إغراءات المسؤولين للمواطنين بمزايا النفق حذرت نساء القرية أبناءهن من الدخول فى ذلك الثقب، إلى أن وجد مجنون القرية وظيفة جديدة للنفق، عندما شوهد خارجاً منه يزرر سرواله قائلا: «عملت تيرلم»، أصحاب الدكاكين المجاورة للنفق قالوا: «إنه أعقل منا والله. نحن من أجل عمل الكذا نذهب إلى الجامع والنفق بجانبنا»، غضب المحافظ لتحول النفق الهدية إلى دورة مياه، استدعى مرؤوسيه ووضعوا حراسة على النفق، فازداد عناد الناس لاستخدامه كدورة مياه، وأصبح فعل الدنيئة فى النفق مقياساً للرجولة، كان يعاقَب بالضرب مَنْ يُقبض عليه يعملها فى النفق، لكن ذلك لم يقمع الناس فقد أصبح تلقى علقة النفق دليلا على الجدعنة.

ذات يوم طبَّ على القرية مندوب من الدولة الصديقة لتفقد رمز الصداقة بين البلدين، حاول مدير المنطقة المذعور إلهاءه دون جدوى، لكنه لم يفلح فى ذلك، عندما وصل المندوب إلى النفق كانت الروائح الخبيثة تزكم الأنوف، نظر إلى النفق الممتلئ بأشكال الدنيئة مذهولاً، ثم قال لمدير المنطقة: «لم أر فى حياتى احتجاجاً بهذا الشكل، سأحكى عن هذا الأمر فى بلدنا عندما أعود، سأقول لحكومتنا إن شعبكم ناقم علينا وهم يعملون خروجهم فوق منشآتنا معبرين عن احتجاجهم علينا، هل وجههم أحد منكم لعمل هذا هنا، أم أن شعبكم اخترع هذا الشىء بنفسه، ليقول لنا بهذا التصرف: خراء على صداقتكم وأخوتكم».

ينهى مظفر إزغو قصته بهذه الكلمات القاسية، لكن المعانى الأشد قسوة، التى تطرحها القصة لا تنتهى. دعنى أقل لك إننى زرت على مدى سنوات قرى تركية كثيرة ربما لم يدخلها غرباء قبلى، فلم أر مظاهر احتجاجية كالتى حكى عنها مظفر فى قصته التى كتبها فى ظل حكم العسكر، أما فى المدن التركية- على اختلافها- فقد كنت كلما مررت بنفق للمشاة أو عبرت أسفل كوبرى أدرك كم فقد الأتراك رغبتهم فى الاحتجاج تبولاً، ليس لأن أحوالهم الاقتصادية تحسنت فقط، بل لأن تجربتهم الديمقراطية استقرت بشكل مذهل.

قبل أيام أخذت أتميز حسدا وأنا أقرأ عن استقالة وزراء الداخلية والعدل والنقل قبل الانتخابات التشريعية التركية بأشهر ليتركوا مناصبهم لمستقلين لا يستغلون مناصبهم فى الانتخابات، بينما البلاد تشغى بصراع سياسى راقٍ بين أنصار علمانية شرسة وأنصار تيار إسلامى مبهر لا يدّعى امتلاك الحل ولا يحتكر الحقيقة، ولا يفرض على الناس رؤيته للحياة.

أصبح لدى الأتراك بفضل الحرية مكان يحتجون فيه أبعد من أنفاق المشاة، بينما مازال الناس لدينا مضطرين لممارسة الاحتجاج أسفل الكبارى وإعلان السخط داخل أنفاق المشاة، لدرجة أنه لو زار بلادنا المنكوبة بحكامها قارئ من قراء مظفر إزغو لظن أن قصته «نفق للمشاة» هى الأكثر مبيعاً لدينا لدرجة أننا حولناها إلى أسلوب حياة.

(من كتاب «ضحك مجروح»- تحت الطبع)


0 التعليقات: