BLOGGER TEMPLATES - TWITTER BACKGROUNDS »

الأحد، يناير 10، 2010

نحن و هم


نحن و هم

د.أحمد خالد توفيق

http://www.facebook.com/note.php?note_id=249266196986&id=160461423721&ref=nf



في لحظة روقان نسبي دنا مني ابني الطالب في السنة السادسة الابتدائية وهو يمسك بكتاب الدراسات - الجغرافيا والتاريخ سابقًا - وسألني: "هو يا بابا حرب أكتوبر دي صح والا غلط ؟"



نظرت له في عدم فهم، فعاد يكرر سؤاله: "يعني إحنا عبرنا القناة فعلاً وهزمنا إسرائيل ؟ والا ده كلام الكتاب ؟"



لم أفطن إلا في هذه اللحظة إلى أنه لا يعرف عن أكتوبر إلا ما تقوله كتب المدرسة وما يقوله الإعلام، والأفلام الركيكة التي استخدمت فيها حرب أكتوبر كمجرد وسيلة لإصابة البطل بالشلل والعجز الجنسي، وهي أفلام من المستحيل أن ترغم طفلاً على مشاهدة ربع ساعة منها خوفًا على عقليته. بالنسبة لي أكتوبر 73 حقيقة واقعة وجزء جوهري من تكويني، وأذكر كل شيء حتى ارتجاج بيتنا في طنطا تحت تأثير المدفعية المضادة للطائرات في مطار (محلة مرحوم) القريب أثناء الغارات، ورائحة البارود في الجو عند الفجر، وحتى صاروخ سام (6) وهو يلاحق طائرة إسرائيلية في الجو فوق سنترال المدينة .. طبعًا كان هذا المشهد بعيدًا عن السنترال لكنه خداع البصر ..



بالنسبة لابني ما يعرفه عن أكتوبر جاء من وسائل الإعلام الرسمية، وبالتالي هو خطأ ومزيف .. لقد تعلم هذا مع الوقت ومن محادثات الكبار .. يقال له في المدرسة إن هذا هو أزهى عصور الحرية، ويُطالب بحفظ أطنان من الإنجازات وإلا خُرب بيته.. يقال له إن (توشكى) أعظم مشروع في التاريخ، وإن العالم لا حديث له إلا عن مصر: متى صحتْ من النوم وماذا أفطرتْ ومتى دخلتْ الحمام ومتى نامتْ .. مدرسوه يلقنونه طريقة كتابة موضوع إنشاء عن (توشكى) أو نزاهة الانتخابات، لكنهم أول من يسخر من هذه الأشياء علنًا .. هكذا صار عنده نوعان من الحقائق: حقائقنا نحن وحقائقهم هم ..



شعرت بشفقة من أجله لأنه مرغم على أن يعيش هذا الانفصام، وأن يقف على أرض مهتزة لا يعرف إن كانت أرضًا أم مستنقعًا .. يجيب عن أسئلة الامتحان فيتحول بالضبط إلى المواطن الذي تشتهيه الحكومة: مشروع رئيس تحرير صحيفة قومية من إياها .. يسود الصفحات عن عظمة النظام وروعة الإنجازات .. ثم يترك اللجنة فيسمع ما يقوله الكبار ويعرف أننا في أسوأ حال ممكن. هكذا يشك في كل شيء حتى الحقائق المفروغ منها .. حتى حرب أكتوبر .. حتى دور محمد علي في النهضة .. حتى وطنية جمال عبد الناصر .. حتى أهمية السد العالي ..



هل (رفاعة الطهطاوي) رائد حركة الترجمة فعلاً أم أن هذا ما يجب أن نكتبه ؟... هل (طه حسين) عظيم فعلاً أم أن هذا ما تريده الوزارة ؟.. هل إسرائيل عدو أم صديق (حركاته مش ولابد) ؟.. هل أمريكا شيطان أم شريك كامل؟.. بالنسبة للسؤال الأخير هو أميل إلى أن تكون الدولة التي ابتكرت الببسي والمكدونالد وأفلام الرسوم المتحركة دولة خيرة نبيلة...



تذكرت هنا كلمات الفنان (اللباد) في مقال مهم له عن الانفصام الدائم بين الحكومة والأهالي، حتى على مستوى الساعة .. يذكر أن الحكومة غيرت التوقيت كعادتها نصف السنوية، وسأل هو أحد المارة عن الساعة فقال الرجل: "عايز تعرف الساعة حكومة والا أهالي ؟".. كان هذا في معرض حديثه عن ألبوم (حكومة وأهالي) للرائع الراحل (بهجت) وهو ألبوم يناقش ذات الفكرة باستطراد. هذه الحادثة نموذج دقيق جدًا للانفصال التام ما بين تعامل المواطن المصري مع الحكومة ومع ذويه من الأهالي .. وقد يشتم المعلم أو المذيع الحكومة ساعة منتقدًا كل سياستها، ثم يدخل الفصل أو يواجه الكاميرا فيتحول إلى شاعر يشبب بهذه الحكومة الرشيدة باعتبار أن لكل مقام مقالاً.



شيء آخر عودونا عليه هو الأسلوب الخطابي المتملق الذي حفظناه في طابور الصباح في المدرسة .. مصر أعظم الدول جمعاء .. الرئيس الحالي في أي عصر هو أحكم رئيس على الإطلاق . العهد الحالي هو العهد الذي صحح أخطاء الماضي .. والكلام ليس موجهًا للطلبة لكنه موجه للسيد ناظر المدرسة .. والسيد ناظر المدرسة يهمه أن يرضى وكيل الوزارة، وهكذا دواليك .. طابور التملق لا يهتم إن كان يحكمنا الحزب الوطني أم الاخوان أم ستالين أم عمر بن عبد العزيز .. المهم أن تصل رسالة النفاق كاملة، وتقرأ مواضيع الرسم فتجدها النفاق مجسدًا: زيارة السيد الرئيس للمحافظة – توشكى – قلادة عليها صورة الرئيس .. ومواضيع الإنشاء ليست أفضل حالاً.. لا يبالون إن كانوا يفسدون أجيالاً، فالمهم هو أن يرضى السيد وكيل الوزارة .. مواضيع امتلأت بـ (العلياء) و(السؤدد) و(الأمجاد).. الخ ..



ثم تأتي احتفالات المدرسة – لو كان فيها فناء يسمح بذلك - فيحقق هؤلاء تخيلهم للأطفال المثاليين الذين رباهم أهلهم جيدًا .. الأطفال الذين يرقصون في ثياب العيد فرحًا بتوقيع اتفاقية الكويز أو فرحًا بانضمام مصر إلى مؤتمر (الفسكونيا)... بينما تقف في الوسط فتاة شاحبة مذعورة ألبسوها ملاءة خضراء كأنها الكفن لترمز لمصر .. يغني الأطفال كلمات لا يفهمونها ولا تعبر عنهم لكنها موجهة للسيد اللواء الوزير المحافظ، ويلبس بعضهم فوطة على رأسه ليبدو كالفراعنة وبعضهم يلف الفوطة لتبدو كعمامة .. بينما الأطفال يشتهون فعلاً أن يغنوا للأرنب والبطة والقط والبالونات .. لكن لا وقت لهذا الهراء .. مستوى النفاق في دم السيد وكيل الوزارة بدأ ينخفض ولابد من رفعه ليرضى ..



هذا التفكير يظهر على نطاق واضح في إعلام الدولة .. رؤساء التحرير لا يهمهم أن تعتبرهم منافقين أو تحتقرهم فهم يؤدون ببراعة العمل الذي كلفوا به، وينالون عنه أجرًا يستحقونه بالفعل .. إن بيع ضميرك وكراهية الناس لك تضحية عسيرة لابد من أن تنال ثمنها سخيًا كاملاً.. الصحف الحكومية موجهة لقارئ واحد فقط .. وقد فهم المصري بفطرته أن قراءة هذه الصحف عمل يخلو من اللياقة كأنك تقرأ خطابًا غراميًا ليس لك، لهذا تركها على سبيل التأدب .. التلفزيون بكل قنواته ليس سوى إذاعة مدرسية باهظة التكاليف الغرض منها إرضاء السيد ناظر المدرسة، والمذيعة ليست سوى (أبلة عطيات) ضابطة المدرسة بذكائها المحدود وضحكتها البلهاء والتي تضرب بالعصا عند اللزوم ..



يتخرج الأطفال وهم يعانون هذا الصراع الداخلي.. ما يقال في كتب المدرسة وفي الإعلام مهم للحصول على درجات لكن لا قيمة له في أرض الواقع ومن الأفضل أن يُنسى .. يُنسى ما لم يصر الطفل هو الآخر واحدًا من المستفيدين يهمه أن ينافق جيلاً آخر ..



قلت لابني: "حرب أكتوبر هي من الأمور النادرة التي اتفقنا فيها نحن وهم على شيء واحد.."



هز رأسه في حيرة وابتعد .. وتذكرت كلمات الأبنودي الرائعة التي تلخص الموقف:



"إحنا شعبين .. شعبين ..

"آدي الأول .. شوف التاني فين ..

"ارسم خط ما بين الاتنين"




د. أحمد خالد توفيق

- نقلاً عن موقع المؤسسة العربية الحديثة

0 التعليقات: